مرحبا بكم

في معلومات مفيدة

تابعونا على

الحب بين حقيقة الجمال وواقع الاختزال

إن الحياة -يا صديقي- أكثر تعقيدا من مجرد مسألة رياضية
هكذا قلت لصديقي المهندس أحاول أن أشرح له صعوبة ما يعيشه الناس في حياتهم، و ها أنا اليوم أكتب عن أحد أهم أسباب تعقيد الحياة : و هي تلك المشاعر الإنسانية، تلك التي لا يعلم أبعادها إلا الله و بالأخص هذا الشعور الجميل الذي لا يخلو منه قلبُ حيٍ ينبض،هذا الشعور الذي يكبر به الصغير و يعيش له الكبير، يتمناه الشاب و تحلم به الفتاة، إذا طرق القلب تلألأت العيون له بدموع الفرح و أشرقت الوجوه لحلاوته بأسارير السرور، ألا و هو( الحبّ) فآهٍ ثم آهٍ منه، و لكن ما الذي دفعني أن أكتب عن (الحب) مع إقراري بصعوبة الوصول إلى أسرارِ معانيه و حقيقةِ جمالِه ؟
الجواب هو : ما أشاهده اليوم من اختزالٍ لمعناه و تشويهٍ لصورته و كثرة إدعائه بغير تحققٍ من شروطه، فالحب أكبر من شوق شابٍ لفتاة و أعظم من أن يقع من نظرة خاطفة لا تلحظ إلا جمال الجسد و مفاتن المادة!
1
الحب جمالٌ يلامس القلب من معرفة صفات المحبوب، الحب واجباتٌ و حقوق، الحب رجولةٌ للرجال و أنوثةٌ للنساء، الحب تضحيةٌ وقت التضحية و قوةٌ وقت القوة و لينٌ وقت اللين، الحب ما الحب ؟! الحب يكون بين الصبي و أمه و الأب و ابنته، الحب يكون بين الأخ و أخيه و الصديق و صديقه، الحب يكون بين الزوج و زوجه بل يكون الحب بين العبد و ربه في أسمى معانيه و أعلى درجاته.
قلبي يحــب وإنـــما     أخــلاقُه فيـه ودينُهْ
مصطفى صادق الرافعي
بل تعلم أن العرب كانت تقول “ألِه الفصيلُ إلى أمّه” و الفصيل ولد الناقة إِذا فُصِل عن أُمه، و هو يأله أي يصرخ شوقاً و محبة للقاء أمه بعد الفراق، أو تلك القطة الأم التي كشرت عن أنيابها بشراسةٍ دفاعاً عن أولادها و حباً لهم فصارت بالحب أنثى أسدٍ في القوة والجسارة، و مما يؤثر و يكشف عن ثغر البسمة في وجهك تلك الصورة التي رأيتها لاثنين من البطاريق يمشيان على صفاء الثلج كلٍ منهما ممسك بيد صاحبه في أُنسٍ و دلال و كل هذا بعض ٌ من شواهد المحبة و المشاعر في الحيوان مما يجعلك تستأنس و تردد مُسبِّحا خافتاَ “إنّ المحبةَ أمرُها عَجَبٌ” !
2
و إذا أردت أن تقف على بيناتٍ من الأمر في تشوه معنى الحب في النفوس، فما عليك إلا أن تلقي نظرة سريعة على أحوال الناس، فانظر إلى الأسرة الواحدة في البيت الواحد، أين الحب في التربية ؟! أين الحب مع الزوجة ؟! أين الحب في المعاملات كافة ؟! أين الحب ؟! فالناس -هذه الأيام- إذا أرادوا الحب جلسوا يشاهدون فلماً رومانسياً يبيع لهم الحب في ساعتين و هكذا صارت الأفلام تبيع للناس المشاعر بعد أن لم يجدوها في حياتهم فهربوا إليها من الواقع الجاف ثم ما يلبثون أن تعود الخلافات! و تجد الرجل يجالس زوجته، الجسد أمام الجسد ساعاتٍ طوال بلا كلامٍ بينهما، و القلب و العقل على مواقع التواصل ينشر منشورا يبحث به عن الاهتمام المفقود في حياته لعله ينال في هذا العالم الافتراضي منه نصيبا.
فإن الحياة المادية التي يعيشها الناس اليوم من تعب و كدر و مشقة للحصول على أدنى متطلبات النفس و حقوقها في المعيشة لهي أكبر أسباب انصراف الناس عن الإحساس بالمشاعر و لو كان ذروة سنامها الحب، بل إن مظاهر الحياة المادية المعاصرة لتتسع لتشمل التقدم التكنولوجي و طبائع العمران الحديث بجدرانه الصلبةالحائلة بين الناس و بين الطبيعة و جمالها، و الطبيعة باعثٌ عظيم من بواعث المشاعر في نفس الإنسان، ألا تنظر إلى السماء و هي تغيم و البحار و هي تموج و الأشجار و هي تنمو، ألا تنظر إلى الكائنات المختلفة في عوالمها الخاصة عالمِ الطيور المحلقة في الفضاء و الأسماكِ السابحة في البحار و الدوابِّ السائرة على يابس الأرض، إنه جمال الطبيعة -يا صديقي- حيث يخفق القلب لباعث المشاعر محبةً و شوقا، أَشعرتَ بذلك؟ إذن فإنه هو : حياة القلب من تحت أنقاض المادة ! و أنا لا أدعو هنا لترك التقدم إنما للتَنَبُّه لأضراره و طغيان ماديته و الحذر منها، فإن لنفوسنا و أرواحنا حقوقا علينا.
3
ثم انظر إلى المدارس و الجامعات، أين الحب بين المعلم و تلميذه ليشعر التلميذ أنه ذو شأنٍ في الحياة، أما يعلمون أن رُبّ ثقةٍ في المحبة يزرعها المعلم في تلميذه أو الأب في ابنه كفيلة بانفجار ينبوع من الإبداع في عقل التلميذ أو الابن، لأنه حين يُدرك أنه محبوب فسيعلم أن الحب مسئوليةٌ عليه تجاه من يحبه، إنه سحر المحبة و لا عجب! و إني ما زلتُ أذكر ذلك الموقف الجليل من أستاذي أستاذ الفيزياء -رحمه الله- إذ وقف أمام أمي ذات يومٍ و وضع يده على كتفي الأيسر ثم قال لها ما أذكر معناه: “ربنا يبارك لك فيه، محمود ذكي و شاطر في الفيزياء” فطار القلب الصغير فرحاً و فخرا، كلماتٌ قليلةٌ لو وُزِنت بالجبال لرجحتها، فجزاه الله عني خيرا.
و قد تسأل في النهاية : ما العمل ؟
أقول لك :فليفعل كلُ واحدٍ ما يستطيع، أظهر معنى الحب لمن حولك، أظهر محبتك لكل من تحب عملاً و قولا، أظهرها لأبيك و أمك، لأخيك و أختك، لزوجتك و أولادك،لابنك الشاب و ابنتك الفتاة، أظهرها و لو بوقت يسير تقضيه معهم كل يوم تتسامرون أو بمزحة تلقيها عليهم لعلهم يضحكون، أظهرها و لو بكلمة طيبة أو ابتسامة رقيقة، أظهر حبك لمن تحب و لا تبخل بوقتٍ في هذا فإن المحبة باقيةٌ لك في نفوس الناس بعد طول الدهر و هي السعادة في حياتك، بل هي الحياة لحياتك.
المصادر
1-عن أثر الأفلام و المجتمع الافتراضي : كتاب “صناعة الواقع.. الإعلام و ضبط المجتمع” لمحمد علي
2-عن قول العرب “أله الفصيل” :كتاب “جمالية الدين” للدكتور فريد الأنصاري و “لسان العرب” لابن منظور مادة فصل
3- بيت الشعر للرافعي من كتابه “السحاب الأحمر”
4- عن الحياة المادية و النفس الإنسانية
http://ift.tt/1OOvrX8

Share this:

JOIN CONVERSATION

    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

Post a Comment